غسان مطر في ديوانه الجديد <<رسائل بيدبا السرية>>: جيل الغضب/

-

غسان مطر في ديوانه الجديد <<رسائل بيدبا السرية>>: جيل الغضب/
بعد جيل الغضب الشعري، أو معه، جاءت أجيال تدميرية في السنوات العشر الأخيرة من صيرورة الشعر العربي الحديث والمعاصر، تتباهى بعصب القصيدة المختل والمريض، ومن <<الزعران>> ليحيى جابر، إلى <<أحدهم يستعد للقفز>> لشارل شهوان، الى <<مطرقة>> يوسف بزي، يلاحظ أن ثمة ما يكتسح، ويدمر.. يغلط بحق الشعر العربي الصحيح والفصيح، لا يعتذر، بل يتبع ما قاله الماغوط. إن المسألة لدى محمد الماغوط صاحب كتاب <<سأخون وطني>>، لا تعنيه، حتى ولو اكتشف له أحمد عبد المعطي حجازي غلطة في لفظ <<عدن>> في كتابه الأخير <<شرق عدن غرب الله>>... فحين لفظ الماغوط <<عدن>> بالدال المفتوحة، قال له حجازي: هل تقصد المكان الجغرافي المعروف في اليمن، أم جنة عدن؟ أجاب الماغوط: أقصد الفردوس. قال حجازي: أخطأت في اللفظ والحركة. إن جنة عَدْن هي بالدال الساكنة... أما مدينة عَدَن، فبالدال المفتوحة. قال الماغوط: <<ما بيهمني الغلط>>، من أول ما بدأت الكتابة، لا يهمني أغلط أو لا أغلط. أريد أن ألفظها <<عَدَن>> بالفتح، وأقصد الجنة... وأضاف: من الأساس ما كنت أعرف أو يهمني أن الذي أكتبه شعر.
يعلق حجازي على هذه المساجلة التي نقلت عن الشاعرين، وجرت على هامش <<تأبينية>> ممدوح عدوان في دمشق، في مطلع شباط/ فبراير للعام 2005 الجاري، باعتقاده أن شعراء قصيدة النثر العربية كتبوا هذه القصيدة لأسباب منها عدم معرفتهم بأصول اللغة العربية والأوزان الشعرية.. وأنا لا أحسب، شخصيا، أن المسألة قائمة هنا في هذا الموقع من الجهل أو التجاهل للأصول... فالمنعطفات لا تحدث بسبب خطأ في السنتاكس أو اللغة. والعين الذكية (.. وحجازي ذكي) تعرف أن المسألة لدى الماغوط أعمق وأخطر من ذلك. هي ذاهبة مباشرة الى عصب الزلازل في القصيدة... الى أسباب الغلط والاختلال السابقة على اللغة والانتظام، أو اللاحقة على الانتظام.. الى حيث للخطأ منطقه الجميل، الى حيث الخطأ هو الحياة. فسجال الهامش بين الماغوط وحجازي ينبغي أن يتعمق... ولترتفع الأسئلة والأصوات ما أمكن. الشعر العربي في اللحظة الراهنة، ركودي، يكاد يكون آسنا. لماذا لا نخض الماء الآسن، نحن الصانعيه، واللاطئين حوله؟

محاولة فك العزلة

بين يديّ الديوان الأخير للشاعر اللبناني <<غسان مطر>>، <<رسائل بيدبا السرية>> الصادر له العام 2005 عن دار نلسن (السويد لبنان). وهو مناسبة للقراءة والسجال، سيما أن الشاعر نفسه يقدم لقصائده بتقويم مسهب، يدعو فيه لما يسميه <<اللغة العذراء>>، ومن خلال السياق يظهر عن رغبته في ابتكار أو إعادة ابتكار لغة للشعر تعيد وصل ما انقطع بين الناس والقصيدة.. <<لغة الناس العادية التي لا تخنقها المساحيق ولا تشوهها التعقيدات البهلوانية... ... والتي بها كتب الشعراء العرب من عمر بن أبي ربيعة الى نزار قباني، إلى...>>.

ويرمي غسان مطر الى ما يسميه <<محاولة فك العزلة>> عن الشعر، باعتبار أن الحداثة الشعرية العربية جاءت بجزء منها، وليدة الحرية الغربية وتماديها في كسر المحظور... ما أدى الى ولع عشوائي عربي بالتدمير، وافتتان هستيري (بتعبيره) بكل ما هو غريب، فصار الشعر العربي، تبعاً لذلك، وعلى امتداد ألفي سنة، بلا طعم ولا معنى.. لقد حصل انسداد واختناق في الشعر من جراء ذلك. وحصلت القطيعة.

ثم تراه يتكلم على <<اللغة القيامة>> واللغة الوصل، فقد <<حاول الناس فهمنا ولكنهم عجزوا فنفروا>>... والأرجح أنه يعتبر الناس <<الجماعة>>... لأن الكلمة في عرفنا غامضة بل صعبة التحديد. يقول المتنبي <<غيري بأكثر هذا الناس ينخدع>>. وصحيح <<أن الشعر وصال>>، كما قال أبو تمّام، لكن نسأل: بين مَن ومَن؟ والصحيح أيضا أن كل جميل غامض.. بل ومخيف. فلماذا النفور المطلق من الإبهام؟ ولماذا كل <<إبهام أرعن>>؟ ولماذا كل إبهام آت من <<الافتتان بالشعر الغربي>>؟ وهل الشعر الغربي سواء؟ وهل الافتتان به أو ببعضه نقيصة في المطلق؟

ينتقد غسان مطر، من خلال نظرية قتل الأب، <<التي كانت في أساس حركة الحداثة>> الذهاب بها بعيدا الى حد <<قتل النسل>>... ويعتقد أن ذلك متأت في الحداثة العربية والأدق في بعض منها... تلك التي يعتقد مطر أنها <<جاءت لغة عربية بحروف أجنبية>>، بسبب تقليد الغرب <<فجاءت كتاباتنا من خارج الحياة>>... فالمشكلة، برأيه، العزلة، ويعني بها الهوة القائمة بين الناس والقصيدة الحديثة، ثم يقترح حلاً: العودة الى لغة الناس.. اللغة العذراء.

يمزج مطر بين الإبهام والتغريب. كما يمزج بين التدمير والتجديد.. كما لا يحدد من هم الناس. ويعتقد أن حرية التجريب أدت للتخريب وإنتاج <<مسوخ شعرية>> بعبارته.
لذا، يدعو في المحصلة النقدية التي يقدم بها لقصائده، الى <<إنقاذ الشعر من الحداثة>>... ولم أجد من يناقش غسان مطر في مقولاته، على الرغم من حدتها.

حسناً. كان أنسي الحاج يدعو في مقدمته لديوان <<لن>> الى <<بجّ السد>>. و<<بج السد>> لا يكون من دون ما هو أشد من قتل الأب. لا يكون إلا بالتنكيل به وشتمه وتهزيئه. لا أخلاق في الشعر. الشعر أقسى من القيم، وأجلّ من الأسلاف. لكن من حيث هزّأ الأسلاف العربيين، في <<لن>>، و<<الرأس المقطوع>>، عاد في <<الرسولة بشعرها الطويل الى الينابيع>> وفي <<الوليمة>> وفي <<خواتم>> الى الينابيع الصافية لعربية إنجيلية، رائقة.. كأنه لم يعد يستمرئ سموم <<لن>> و<<الرأس المقطوع>>.. لكأن اللغة هي دهر المعري.

أسئلة كثيرة ومتنوعة يطرحها غسان مطر، أسئلة مسننة، ليست جديدة بالطبع، ولكنها لا تزال صالحة لكي تطرح. لا لأنها جديدة أو قديمة، بل لأنه ليس عليها من أجوبة نهائية. ثمة أسئلة وضعت لتبقى أسئلة. اللغة العذراء، مثلاً، ما هي؟ الناس... من هم؟ كيف يتم الحضور الجديد للأبناء في الحياة من دون مدافن للأسلاف؟.

أبناء وآباء

العلاقة بين القدامى والجدد، الآباء والأبناء، شديدة التعقيد. هل أنا بريء من امرئ القيس مثلاً مهما عمّقت له الحفرة؟ أقصد بذلك شعري ولغتي (كيفما أتت كيمياؤها)؟! اعتقد الحداثيون في الغرب أنهم قتلوا الأسلاف وغسلوا أكفهم من دمائهم، لوثر يامون قتل الإله ونيتشه فرك يديه فرحاً وقال مات، انتهينا، فوجده في أول منعطف، وأوجين يونيسكو هزأ فيكتور هوغو، فاكتسحه هوغو من بعد ذلك في فرنسا في عقر داره بسنة كاملة له... ومن حيث اعتقد فلاسفة الحداثة الغربيون les modernistes أنهم دفنوا الماضي دفناً محكماً وأقفلوا القبر، عادت العظام فتحركت.. حركها
المابعد حداثيون، le
s Post modernistes من أمثال فوكو ودريدا فتبين أن الحياة نصوص في نصوص والكتابة تداخل نصوص intertextualite... ولا شيء ينتهي ولا شيء يبدأ وما تظن أنك تقتله يقتلك وهكذا الحياة وهكذا الكتابة والشعر، دوران... فلا يغترنّ أحداً بالقبض على الحقيقة.. ما ان يقبض عليها حتى تتبخر.
نعود لنسأل عن الحدود بين الأصيل والمكتسب. الذات والآخر... وما الهوية؟ وعلى الرغم من أن الأسئلة قديمة أيضا، لكن تجدر ملاحظة التدخل العبقري الخلاق والمعولم.. المعولم... بين الهويات. النسل الصافي انتهى أو كاد. والناس. أثمَّة من ناس؟ من هم؟ الشعر أقلوي ونخبوي بالضرورة. الشعر في ما هو قلق وقبض على ما لا يقبض عليه. ومن قال لغسان مطر ان الناس الذين تكلم عليهم في مقدمته النظرية، يفهمون قوله <<ما كنت هنا/ ما كنت هناك/ ها نحن بدأنا رحلتنا/ وعبرنا ما بعد الأفلاك/ ودخلنا أنفاق الملكوت/ بلغنا سفح العرش وصلنا....>> ... أو يفهمون قوله:

<<قبلي رأوا ما رأوا ما ضرّ لو تركوا
لي أن أرى ما أرى أو لا أرى فأرى؟>>
أهذا القول سهل في اعتقاده ومبذول لكل الناس، أم هو صعب ملتف على ذاته كدغل، وجميل لأنه مصان بصعوبته؟ والغموض. لماذا لا؟ بمقدار ما لماذا نعم.

لا أحسب أن غسان مطر أجاب في قصائد مجموعته <<رسائل بيدبا السرية>> عن اسئلته الكثيرة في تقديمه. لا يمكن ان يكون الشعر جواباً عن بيان الشاعر. الشعر يكون اولاً... الشعر يكون او لا يكون. كل قصيدة مبدعة بأي شكل اتت، بأية صيغة، لغة عذراء. قد تكون البدائية، الدادائية، الرعوية... حيلة من جيل الإبداع. قد يكون التركيب المعقد، حيلة شعرية اخرى.

الهوامش طريقة، السرد، النثر، السيرة، القضايا العظمى... وسوى ذلك، كله طرق وحيل من حيل الشعر. المهم سطوة النص. سطوة القصيدة. كيف؟ لا ادري... فالقصيدة اهم من الناس واهم من الحياة.

بالعودة لقصائد غسان مطر الذي اثار تقديمه حميتي للسجال الذي كنت بدأته مع تجارب متباينة لشعراء في اماكن ولغات مختلفة (سبق منها السجال مع أمجد ناصر وعباس بيضون، عيسى مخلوف ويوسف بزي، محمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقرا... الخ)، والقصائد هي اساس الصنيع الشعري للشاعر، فإننا واقعون على قصائد لشاعر ينتمي لجيل الغضب في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة. هذا الجيل الذي اعطى أمل دنقل في قصيدته <<لا تصالح>> وممدوح عدوان في <<يألفونك فانفر>>، ومظفر النواب في <<وتريات ليلية>>. نضيف الى هذه الاسماء آخرين من الريادين: نزار قباني في <<هوامش على دفتر النكسة>> ومحمد الماغوط في <<الفرح ليس مهنتي>>.

وجيل الغضب جزء من خوارج الشعراء العرب المحدثين. كتبوا كلمات مسنّنة كزعانف الاسماك، لا ينقصها السم، الغضب، والشتيمة. قصائد مولودة من رحم القهر والهزائم السياسية والقومية، وتحوّل القهر العام الى قهر خاص، والهزيمة القومية السياسية الى هزيمة ذاتية.. وخلطوا بين جسد الأرض المداسة وجسد المرأة الموطوءة، وشتموا الملوك والحكام لكنهم مع ذلك جلدوا تواريخهم جلداً عنيفاً.. وجلدوا انفسهم بمازوشية تسلكهم جميعا في هذا السلك من الغضب.. وإن تباينت الاساليب، وافترقت الجيل الإبداعية.. وكثيراً ما نراها تتقاطع، فما بين <<نيل>> أمل دنقل، وبردى <<محمد الماغوط>> نسب متشابه وقصيدة متماثلة حتى العجب.. وما بين هجائيات أمل دنقل، وهجائيات نزار قباني للنسل العربي بكامله، والارومة بذاتها، نسب... وبين ما ذكرنا، والكثير من قصائد غسان مطر في <<رسائل بيدبا السرية>> نسب متين. يقول في قصيدة <<القبر>>:

<<وطن مثقوب الروح فلا فرخ في الروح ولا إيمان
وطن ساحات عواصمه قبب لعبادات الأوثان
لم يشبع فيه بنو عبس من نبش قبور بني ذبيان
وبنو العباس سيوفهم ظمأى لدماء بني سفيان
وطن زورنا فيه الدين وشوهنا وجه الرحمن
هذا يتستر بالإنجيل وهذا يقسم بالقرآن
والله قتيل بينهما والغالب بينهما هو الشيطان>>.

أمل دنقل في قصائده اشبه ما يكون بالقنفذ يرسل اشواكه في كل اتجاه.. وإذا اصابه بوالين السياسة المنتفخين والمالئين زمانه، فإنه ايضا سدّد الى ما انتفخ من التاريخ العربي والاسلامي اوزها بالبطولة.. ففي قصيدته <<مرثية جديدة على قبر صلاح الدين>> تراه يشبه صلاح الدين الايوبي بقارب الفلين، وينعته بالطبل البدائي.. الهزيمة افسدت كل شيء، ليس الحاضر وحده بل الماضي ايضا واكاد اقول المستقبل. قصائد هجاء مرّ وجلد ذات تناسلت من رحم الهزيمة. يقول غسان مطر <<ماذا بنا يا رجل/ لا نفكّر إلا بأذنابنا؟.. رأيت بلادي سريراً تخيّلت أمي وأختي وبنتي... تقيأت>>. ويقول، باستخدامه اللغة اليومية: <<سبّت دينا دين الفنتوم/ قامت وهي تتمتم اولاد الشر... من يمسح هذا العار ومن يقتل هذا السرطان؟/... سكتت فيروز وغنّت هيفا: يللليّ أمانْ>>.

ولو توغلنا اكثر في لحم ودم وعصب قصائد غسان مطر. لوجدناها على مراتب. لا شك في ان التجربة الشخصية والسياسية فعلت فعلها الأكيد في شعره. وكمثل ما تصهر النار القوية المعادن وتصيفها فعلت نار الحزن الذاتي والقهر القومي والسنوات فعلها في هذا الشعر، فطامنت من بعضه وسنّنت البعض الآخر. فهو من لدن <<عزف على قبر لارا>> شعر مقدود من نبعة الحزن ومطهر الألم. رقيق باك شفاف معذّب. ومنذ العزف على قبر لارا في العام 1990، بدأت لغة غسان مطر الشعرية تخضل بالدموع. لقد صنع الحزن العظيم تماثيله وبلوراته كما يصنع الماء المتجمد بلوراته في الكهوف. ثمة نسيج يتسرب من جوف القصائد.. بكاء من ردهات خلفية، واحيانا تطلع اسئلة وجودية مرة بل اتهامية للوجود ذاته، بل اتهامية لصانع الوجود جلّ وعلا.. لقد صدّع قبر لارا صورة الإله في ذاته لمدة طويلة.. وإذا كان بقي فيه من القلق الديني شيء في <<رسائل بيدبا..>> فهو لم يعد قلقا ميتافيزيقيا او طالعا من اسئلة الألم والقتل (خاصة قتل البراءة)، بمقدار ما هو طالع من القلق الاجتماعي والسياسي.. حيث يدخل المخبر في جلد الفقيه، واللص في جلد الخليفة، ويتم الذبح على اسم الله، ومثلما قال مظفر النواب في احدى قصائده <<.. وقرأت فاتحة على الشهداء بالعبرية الفصحى فضج الحان بالأفخاذ والطرب>>، يقول غسان مطر في قصيدة <<مربايا>> اسم مدينة في اسبانيا منتجع لبعض الأمراء العرب :

<<مربايا سوق لمقايضة التاريخ العربي بفخذين، ومقبرة الشهداء بخمس او ست بغايا>>.

العتبة الاولى في الديوان عتبة القصيدة الاولى وهي بعنوان <<يقول بيدبا>>. وهي قصيدة هادئة بعيدة كل البعد عن الوخز السياسي والخطاب الشعري الذي يصرخ ويشتم ويتهم. بل هي قصيدة ذات طرافة حكمية تأملية عميقة، حيث في نهاية كل مقطع تأتي الضربة الشعرية التأملية: <<علّمني زمني ألاّ أخشى الذئب الشارد في الغابات وفي الوديان/ علّمني زمني أن الذئب هو الإنسان>>. وغالبا ما هو، في القصيدة هذه، يستنطق العناصر في تحولاتها ومآلها الى الغبار <<لا تعرف ماذا تهمس في آذان الاشجار المزهوة ألسنة النار>> وكما تتغبّر العناصر، يؤول الإنسان ايضا الى غبار... قبض الريح... باطل الأباطيل. لكن الشاعر ما ان يغادر هذه العتبة التأملية الجميلة الهادئة الحكمية في قصيدته (وهي هي رسائل بيدبا الحكيم السرية) حتى يدخل في الشارع السياسي الطويل للقصيدة.. حيث العبارة شعبية بالضرورة، والمعنى مباشر، والمعنى هجائي واتهامي.. والشعر طالع من الناس ويتقدم إليهم. هنا قد نفهم معنى دعوة غسان مطر في مقدمته للغة العذرية، لغة الناس. وبين تسمية الاشياء والاشخاص بأسمائها العارية، والرمز إليها برموز محمولة من الإرث الديني العربي والإسلامي بشكل عام، والمسيحي احيانا حيث تتوالى رموز الطوفان ونوح وأيام التكوين، وابراهيم وهاجر، وصلاة الفجر والله والشيطان ومريم والمصلوب.. فإن تقنية غسان مطر في بناء القصيدة، تقنية نقدية هجائية، لا تستسلم للميثولوجيا الدينية بمقدار ما تظهر مفارقاتها وهي تتفاعل في مجتمع موطوء، ساسته الحاكمون باسم الدين جلادوه، والمتشامخون برموزه الدينية، صيارفة ومرابون، والفقهاء فقهاء ظلام.. وهم (اي الساسة) يتربعون على بلاد هي جنون الشاعر. يقول: <<جنوني بلادي/ التي يعتليها الملوك الرعاع/ ملوك وسبعون مليون أعمى وعمياء لا يقرأون ولا يكتبون..>>. والمفارقة ان واطئ الناس موطوء.. وان الشاعر إذ يستعير كلام الناس، يعيده إليهم:

<<فبأي كلام اخاطبهم/ هل بغير الشتيمة تفهم هذي التيوس التي ليس فيها من التيس غير القرون؟/ كلما طالعتني وجوه جلالتهم اتقيأ اصرخ من وجعي: امكم، اختكم، عرضكم، نسلكم أيها المجرمون..>> نعم. انهم <<أولاد القحبة>> انفسهم من يهجوهم غسان مطر في هذا المقطع.. حيث المعنى يحرّك اللغة.. اللغة تأتي من الناس (الشارع) لتعود إليهم.. طيعة، مكشوفة، عارية، مباشرة، تنهل من المحكية احيانا.. قليلاً ما تتوسل الصورة، وهي مسلوكة بسلك الايقاع... ومن المتنبي الى غسان مطر، مروراً بنزار قباني ومظفر النواب، يتوالى هذا الهجاء المر، لأمة كلما ظن الشاعر انه يخاطبها بلغتها فيتواصل معها، يبتعد عنها ويزداد غربة.

التعليقات